الإرث الحكومي

يعيش المغرب في الآونة الأخيرة، علي بعد أشهر معدودة على الانتخابات التشريعية و نهاية ولاية الحكومة الحالية، وفي عز هذا الشهر الأبرك، أزمة خانقة، فالأسعار في ارتفاع صاروخي و السيولة شبه منعدمة لذى المقاولات الصغرى و المتوسطة، الحوارات الاجتماعية متوقفة، و المسؤولين عن السياسة النقدية اعترفوا بعجزهم و محدودية وسائلهم وآلياتهم و ورموا المسؤولية على الأذاء الحكومي وحده بعد أن كانوا شركاء في السياسات الاقتصادية الكبرى…..

الأزمات التي سوف تتركها لنا الحكومة الحالية سوف ترهن مستقبلنا القريب والبعيد معا. فالقرارات التي اتخذتها خلال ولاياتها والتي كانت تهم بالأساس التوازنات الماكرو اقتصادية، والتسريع بخفض العجز المالي، والرفع من المديونية مع نسف المقاصة كأذاة لإعادة توزيع الثروة…. لم تخفف قط من الأزمات الاجتماعية بل زادتها تفاقما وتعقيدا من خلال ارتفاع عدد العاطلين وبالخصوص بين الشباب حاملي الشهادات وتدني مستوى التأهيل العملي، ومن خلال ارتفاع نسبة الهشاشة و ارتفاع أحزمة الفقر و السكن الغير اللائق….الخ.

القطاع الصحي لم يسلم هو كذلك من قرارات المتخدة والارتجال في اتخاذ القرارات الغير المدروسة العواقب لم تخفف هي كذلك من أزمات قطاع الصحة من ضعف في التأطير الطبي وضعف التجهيزات وتدني جودة الخدمات و رعاية المرضى و صعوبة الولوج إلى المرافق الصحية وغلاء الأدوية…..الخ.

 أما قرارات قطاع التعليم ولغة التعليم ومضمون المقررات والتأطير فكلها تتجه إلى ضرب مجانيته وعموميته وتعميمه، بل جعل العالي منه حكرا على فئة دون أخرى …….

قطاع الاتصال الذي يعتبر الإطار التي تمارس فيه الحريات أولا والرقي بالمجتمع و إبداعاته فقد كرس من خلال دفاتر تحملاته التركيز و الطغيان للبعض عن الكل….. كما فتح الباب على مصرعيه لشركات الإشهار وبعض المعبتين بالدوق العام للهجوم على المواطن وبتكريس التفاهة و الإزدراء والعبت…… إنها بارتجاليتها وعدم مصاحبتها كرست لأزمة في الإبداعات، في الإنتاجات الفنية …… في تلفزتنا ……في إعلامنا……

أما قرارات حكومتنا في الإدارة العمومية لم تيسر سوى هشاشة أغلبية موضفيها في وضعيتهم القانونية، في ولوج المواطنين إليها وإلى أسلاكها وتكريس بطئها و ضعف فعاليتها واستتناء الكتير من المواطنين من خدماتها الرقمية حيت الأمية مستفحلة بين البالغين خصوصا فيما بين الساكنة التي تفوق عمرها عن خمسة وعشرين سنة….

فالحكومة سوف لن تترك لنا إرثا كبيرا من الأزمات…… أزمة في الضمان و التماسك الاجتماعي……. أزمة في اللغة و الهوية …….أزمة في الأخلاق ……أزمة القيم…….

أزمة من الناحية المؤسساتية وفي تنزيل الدستور وفي الطبقة السياسية وحواراتها السطحية ولغتها و خطابتها الجوفاء……

فهذه الأزمات التي سوف نرتها لامحالة، سوف لن نتمكن بمعالجتها، أو بمرورها، أو بظرفيتها من العودة إلى سابق عهدنا، إلى استقرارنا…….كأن مخلفات حكومتنا سحابة صيف و سوف تنجلي مهما كان زمنها و طول فترتها….

عدد من خبرائنا الإداريين و المدافيعين عن القرارات الحكومية المتخذة والانكشارية تابعة الطامعة في عطاء كيفما كان نوعه، سوف يقولون بأن مجتمعنا له استثنائه، وأن اقتصاديتنا و مجتمعنا هو مستقر وأن الأزمة التي نعرفها تم استيرادها من الخارج، ولم تكن يوما عيبا منا أو ضعفا أو تقصيرا في سياساتنا الاقتصادية و الاجتماعية و حتى الثقافية. بل الأزمات فرضت علينا كإكراهات. الأزمات التي نعيشها فهي نتيجة للأزمة الاقتصادية العالمية التي نحن، حسب رأيهم، في منأى عنها بفضل السياسات المتبعة، وقوة  وعدم خوضها في المغامرات المالية العالمية ، لكن أزمتنا هي فقط أعراض جانبية تم استيرادها عبر ميكانيزمات ترابطية مثل السلع المستوردة و ارتفاع أو انخفاض سعر العملات أو البترول و ضعف قدرة البلدان التي نصدر إليها منتجاتنا على استيعاب سلعنا بفعل الأزمة……. مما يأتر على ميزان الأداءات و على الميزانية وعجزها وارتفاع حجم مديونيتنا، مما يؤتر سلبا على بعض الخدمات الاجتماعية وسير بعض المؤسسات وإننا بفعل و تفعيل بعض الإصلاحات و التقويمات مع مرور الأزمة العالمية كل شيء سوف يعود كيفما كان و سوف تتشكل أواصر النمو و الازدهار و الرخاء…..

يقولون لنا دلك كأنما مجتمعنا لا يعرف ديناميكية خاصة به، وتجادبات و إكراهات مرتبطة بنا و بتطورنا وبتفاعلاتنا مع المجتمعات الأخرى.

إننا نؤثر في محيطنا كأفراد و كمجتمع، و هو يؤثر فينا. هده الديناميكية تعرفها جميع المجتمعات مند الأزل.

إن الأزمات و حلها لم يكن يوما مرادفا إلى العودة إلى نقطة ما قبل الأزمة…. الأزمة كانت و لا تزال نقط تحول في الصيرورة التاريخية لمجتمعنا. نقطة انتقال من وضع إلى أخر. نقطة تطور ومفصل في تفكيرنا…..

الأزمات بالنسبة للفرد و كذلك للمجتمع كانت و لا تزال محمولة على القلق و عدم الاستقرار، محملة بالخوف من الغد، من المستقبل، محملة بالتوجس من فقدان المكتسبات و التقهقر ……. كما هي أيضا محملة بالأمل……

هدا المخاض نعيشه في هده اللحظة التاريخية من حياتنا، نعيشه يوما بعد يوم و نحن نحاول استقراء المولود الأتي: هل هو كامل، مشوه، صحيح البنية، كامل التطور و النمو…..؟

في خضم هده المعانات اليومية من أجل حفظ المكتسبات، من القلق و التوجس، من الخوف من المستقبل، يجب الوقوف مع دواتنا وإخراجها من زحمة التناقضات المحيطة بنا لنساءل أنفسنا: ما هي الأدوات التي نملكها لتحليل ما يقع حولنا و لنا، ما هي الثوابت و المتغيرات و هل توجد أصلا ثوابت و متغيرات و ما هي كما نتساءل عن ماهية الركائز في تفكيرنا و مكتسباتنا؟

إن العولمة و الكونية التي نعيشها من خلال وسائل الاتصال و الموصلات قد جعلت كوكبنا فعلا قرية صغيرة. إننا نعي جيدا أن قرار سياسي أو اقتصادي داخلي في الولايات المتحدة الأمريكية لتشجيع الصناعة أو خفض مستوى البطالة مثلا سيؤثر على سعر الفائدة داخل السوق المالية الأمريكية ومن ثمة على سعر الدولار، و الذي سوف يؤثر في اللحظة نفسها على سعر البترول و المواد الأولية و ككرة الثلج هدا القرار سيؤثر على اقتصاديات دول المنتجة للنفط و الدول المستوردة وعلى التحاقنات بين الدول المتنافسة سياسيا أو عسكريا….. و سوف تتخذ دول أخرى إجراءات مضادة للمحا فضة على مصالحها…..

إن العولمة التي نعيشها اليوم قد زلزلت السوق الداخلية للدول مع هيمنة لاقتصاد السوق….. اقتصاد السوق الذي حاول الإنسان أن يدجنه لما يناهز قرنا من الزمن داخل الفضاء الدولة القطرية، بإنتاج قوانين وطنية كيفما كانت نوعيتها جنائية أو مدنية أو تجارية أو اجتماعية أو مالية….و الآن مع هده العولمة لا أحد يمكنه أن يروضه  أو يحجم جأشه لأن أواصره وامتداداته وتداعياته تتجاوز فضاء الدولة القومية والوطنية. التبادل التجاري، الشركات العابرة للقارات، الاستثمارات الأجنبية أو التشاركية بين الأفراد و الأقطاب أو حتى الدول، الصناديق السيادية…كلها فرضت على القوانين الوطنية أن تتأقلم مع هده المعطيات التي تتجاوز حدودها، بل القوانين الوطنية للدول دخلت في منافسة مع بعضها لاستقطاب الاستثمارات و رؤوس الأموال داخل منطق لا يخلو من الازدواجية في التعامل مع أفضلية للأجنبي غلى الوطني تحت ذريعة التنافسية و خلق الثروة و النمو الوطني…..

 إن اقتصاد السوق يبقى إلى حد الآن أحسن منظومة لخلق الثروة و أسوؤها لتحديد المجتمعات……

إن عولمة اقتصاد السوق  دفعت الدول إلى تكتلات جهوية أو قارية أو قومية أو…… لقد دفع في اتجاه محو الحدود و تخطيها لأن اقتصاد السوق بجموحه هو أكبر من أن ينحصر في حدود وطنية أو قطرية. إنه يتجاوز شعب دولة أو حدودها، ولا يرضى أن يحجم و يلجم بقوانين وطنية. إن اقتصاد السوق لا يؤمن بالحدود….

إن عولمة اقتصاد السوق يحمل في أحشائه لغما ضد ما ساعده على انتشاره.

إن عولمة اقتصاد السوق ينسف الديمقراطية….. إن كون القرارات الكبرى داخل التكتلات تأخذ داخل مؤسسات جهوية أو قارية أو دولية غير منتخبة وبمنأى عن المحاسبة الشعبية تجعلها غلى نقيض الديمقراطية كأسمى نضام توصلت إليه البشرية الآن في غياب نضام أخر مجرب ومنافس له. ويبقى للمؤسسات المنتخبة جزئيات تكييف القوانين مع الخصوصيات الوطنية و إعطائها الصبغة القومية وخاتم الخصوصية الوطنية الظاهرة.

   داخل هده العولمة وتجلياتها الإعلامية، أصبحنا جميعا متصلين في شبكات إعلامية، و شبكات اجتماعية، شبكات افتراضية  نتبادل فيها كل شيء. نتبادل معارفنا، هواجسنا، معطياتنا الشخصية…… وأداتنا في دلك الحواسيب و الهواتف الذكية. حياتنا، بفعل الانترنت، انقلبت رأسا على عقب. الانترنت الذي أصبحت شبكته قارة لوحدها. قارة سادسة فوق الأرض. قارة تكبر يوم بعد. يهاجر إليها كل يوم الملايين من الأفراد. أصبح يهاجر إليها كل شيء: مقولاتنا، خدماتنا، إداراتنا، إقراراتنا الضريبية، أمننا….  هده القارة التي أصبحت تعيد صياغة المفاهيم الأساسية لحياتنا الاقتصادية و الاجتماعية والقانونية. نحن الدين لا نزال لم نحدد مفهوم الواقع الافتراضي، ولا كيفية تقنينه…..

النشاط البشري بأكمله يهاجر إلى العالم الرقمي، الهجرة مع التحول. تحول في عقيدة التبادل التي تأسس للاقتصاد.

فإن كانت النظريات الاقتصادية و المبادئ القانونية المستنتجة منها، مبنية على حق الملكية و أشكال نقل الملكية الذي يسجل التبادل ركيزتها.

التبادل وحق الملكية بين الأشخاص يمكن أن يكون إما بالبيع أو المقايضة أو الهبة، فنقل الملكية تتم دائما من جهة إلى أخرى. لكن مع العالم الرقمي أصبح للتبادل ضلع أخر ألا وهو: التقاسم.

فالتقاسم مفهوم يفرضه علينا العالم الجديد: فقد أصبح هناك نقل للملكية دون التخلي عنها

 

 

 

Laisser un commentaire