سياسة المنطق و منطق السياسة

عبداالعالي تيركيت

إن العلاقة المتعدية في الرياضيات لا يمكن تطبيقها في عالم السياسة فليس صديق الصديق هو بالضرورة صديق، كما ليس عدو الصديق هو بالضرورة عدو، كذلك، فعدو العدو ليس بالضرورة صديق….. و هذا ينطبق في السياسة الداخلية للبلد، كما ينطبق على العلاقات الدولية بين الدول.

ففي السياسة الداخلية، تجد أن الإسلامي عدو المحافظ و صديق الشيوعي، و الشيوعي عدو الحداثي و صديق الليبرالي، و الليبرالي صديق التقدمي و عدو الوسطي….و عندما تسألهم لماذا هذا الجفاء بين الألوان القريبة و التناغم بين الألوان المتنافرة يقدمون مصلحة الوطن كأمر يلزم التآزر و أن من ليس معنا فهو بالضرورة ضدنا.

إن المنطق يفرض نسقا لا يمكن الخروج منه إلا و صرت خارج السياق و النتائج بالضرورة خاطئة، بينما في السياسة تجتمع الأضداد و المنطق يبقى بدون منطق….. فحزب في الحكومة يتناغم مع حزب في المعارضة، وأخر في المعارضة يعزف نغمة مكون آخر في الحكومة، و كل طرف من الآراء إما معنا أو ضدنا…. فقسم مكون من حاكم و معارض يحارب حرية الإبداع أو الرأي بدعوى الأخلاق و القيم الدينية و فرض الوصاية على الفكر؛ و الطرف الآخر يدافع عن مشاهد فاضحة و كلام ناب بدعوى عدم الرجوع إلى الوراء و الانتفاضة ضد التزمت و الظلامية، وهدفهم، المعلن على الأقل، جميعا هو الرفع من قيمة المجتمع و تطوره و ازدهاره و الرفاه لمجتمعه….

الكل يحمل قيما نبيلة، و المنطلق لدى الجميع: الحرية الفردية، و الغاية: رؤية مثالية لمجتمع و لعقد اجتماعي متميز. ألم يكن هذا المنطلق و تلك الغاية هي التي انطلقت في جميع نسق الفلسفية و السياسية التي مرت بأوربا و لامتداد خمس قرون و ما يزيد؟، ألم تكن الحرية الفردية هي المنطلق الموحد لجميع التيارات، و التي أعطت في النهاية الليبرالية بجميع فروعها، المتوحشة، الاجتماعية، الكاثوليكية…، كما أعطت بنفس المنطلقات، الاشتراكية و الشيوعية…..:كما أعطتنا النازية و الديكتاتورية ……

إن محاولة البحث عن توازن في المجتمع يحقق جميع الأهداف الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية، توازن يكون الأعلى و الأقصى لجميع أفراد المجتمع ليس بالضرورة حسب سياسة المنطق هو الأمثل و الأفضل للمجتمع. فالتوازن الأمثل هو ذاك التوازن الذي لا يمكن أن ترفع المنفعة لشخص دون أن تؤذي شخصا آخر، بينما في التوازن الأقصى فيمكن أن يكون ولو على حساب فرد أو مجموعة أفراد أخر، ولكن المنطق يقول بوجوب الاجتهاد لمحاولة إيجاد صيغة لتقريب الأمثل من الأعلى….

لا يمكن تلخيص النقاش الدائر، في المجتمع الآن، حول حرية الأفراد في ازدواجية أنت مع أو ضد، لأن الحرية الفردية شيء مسلم به للجميع. كما لا يمكن تلخيص الأفكار بين يميني و يساري لكي ندرك دلالاتها، لأن إذا فعلنا ذلك نرتكب فقط حماقة. حماقة إذا اعتقدنا أن جهة من الجهات أنها تحتكر الخير و الفضيلة و الفطرة السليمة وكذلك الرخاء. لا ينبغي أن يكون مجرد اتهام شخص بأنه يمني ليتم استبعاده و تسجيله بين أوباش البشرية الذين لا يمكن أبدا أصلاحهم، كما لا يمكن مجرد اتهام شخص بأنه يساري ليتحول إلى شخص غير مسؤول حالم و مجرد ميكروب من الطفيليات المصاصة لثدي الدولة الراعية.

لا زال هناك حدود لهذه الرؤية المبسطة للسياسة، التي تحول في نهاية المطاف كل معسكر إلى العدو اللدود للمعسكر الآخر. « اليسار » يثير حنقي و غضبي عندما يعتقد أن له وضعية احتكار للقلب، و « اليمين » يثير حنقي و غضبي عندما يعتقد أن له وضعية احتكار للحقيقة. و الاثنين يثيران حنقي و غضبي عندما يتخيلان أنهما في حرب يجب إتمامها بين رؤيتين مختلفتين لا يمكن نهائيا التوفيق بينهما لأجل الصالح العام. لأن التخيل « للحرب التي يجب إنهائها » لا يمكن بأي حال أن يعطي الفرصة للفطنة المبطنة للصالح العام، و المصلحة العام، و اللذان لا يمكن أن يتركا أسيرين لنظام أيديولوجي واحد.

هذا لا يعني أنه ليس هناك مبادئ جذريا متناقضة. لا يمكننا و لا يجب علينا أن نكون متفقين مع كل شيء. و لكن هذا يعني أن نتجنب أن نكون مستبدين مع كل خلاف نريد أن نجد له تسوية، و تحويل كل خلاف واقعي إلى عذر للشيطنة. السياسة هي الحفاظ على تماسك بمبادئ متناقضة لكنها ضرورية. لأن الحالة الإنسانية معقدة و لا تنهل من فلسفة واحدة في نظام إيديولوجي واحد. إذ كنا لا نطلب من معسكر واحد أن يتبنى هذا التعقيد، لأنه لا يمكن لأي أحد أن يدعي أن له حكرا على حالة الإنسان، يمكننا أن نطلب من الجميع عدم شيطنة الآخرين، الذين هم في المعسكر المقابل يبحثون على تركيبة سياسية و تاريخية خاصة بهم، ما بين قيم و مبادئ التي تتوالد بهم حالاتنا الشخصية، الاجتماعية و التاريخية. لهذا فمنطق السياسة مختلف على سياسة المنطق. رجل السياسة الكبير ليس ذاك الذي يذوب فكره في منطق مطلق غير مشروط، ولكن ذلك الذي يمكنه أن ينسق بين مجموعة من النظم المنطقية المختلفة من أجل الصالح العام.

إن دور المثقف لا يجب أن يكون هو المصادقة على هذه الفئات و الزيادة في تطرفها، و لكن بالتحديد، هو التفكير من خارج هذه المحارب الإيديولوجية حيث يحاولون اعتقال الناس بشكل فج. يجب على المثقفين أولا، أن لا يتصرفون كإيديولوجيين و لكن كباحثين يحاولون فك شفرة الأخبار الآنية و النضر إلى كيفية استكشاف الصيرورة التاريخية، داخلها، بوتيرتها الخاصة. فقبل أن يختار بين الأخير و الأشر، على المثقف أن يفكر في العصر، في معالمه وفي محتواه. هذا لا يعني أن المثقف لا يمكن أن يكون حاملا لقضية، ولكن كما كان يحلو لريموند آرون أن يقول، أن يكون حاملا لقضية ليس كمناضلا ولكن كمتفرج مشارك. و كقناعة شخصية، يمكنني أن أقول مهما كان المثقف ذا قيمة، مهما كان من الصعب تصنيفه يمينيا أو يساريا. و حتى لو تحقق ذلك، ففكره يتجاوز دائما الفئات الإيديولوجية الضيقة التي نحاول تصنيفه و خنقه فيها. قد يقول أنه يميني أو يساري، لكنه أبدا لن يقول أنه فقط مع اليمين أو فقط مع اليسار.

Laisser un commentaire