الخطر الآتي من الشمال

عبد العالي تيركيت

كثرت في الأيام الأخيرة التحركات الدبلوماسية على المستوى الأوروبي لإيجاد مخرج لعاصفة المهاجرين الغير الشرعيين التي تجتاح حدودها، خصوصا بعد فواجع الغرق في السواحل الإيطالية، رغم كون الهجرة المتجهة إلى أوربا تبقى جد ضعيفة مقارنة مع ما تعرفه هذه الظاهرة على المستوى العالمي. فالهجرة ظاهرة عالمية و أكثر من تسعين بالمائة يعرفها الجنوب، وتبقى دولة كباكستان من أكثر الدول التي تعرف وقع هذه الجيوش النازحة، بينما أوربا لا تعرف سوى 1.7 مليون مهاجر. هذا الرقم الذي ينتقل إلى 30 مليون إذا أضفنا عليه مخزون المهاجرين الذي تتوفر عليه أصلا و الذي يتكون من حوالي 20 مليون آتية من خارج أوربا، هؤلاء المهاجرون الذين يبقون ذوو قيمة عالية لأوربا في ظل الشيخوخة الديموغرافية التي تعرفها رغم الاستغلال السياسي و البسيكولوجي الذي يستعمل لهذه الظاهرة كتهديد للهوية الأوربية و لطريقة عيشها في ظل عولمة متوحشة.

فالسؤال المطروح على الدبلوماسيين و الساسة الأوربيين هو كيفية إيجاد توافق بين الاستفادة اقتصاديا و ديموغرافيا من هذه الأمواج الآدمية و بين الشعور لديهم أمام هذه الأمواج بالعجز و فقدان السيطرة على الظاهرة. من هنا يطرح عليهم سؤال الأولويات في معالجة الموضوع. فالأولوية العاجلة بالنسبة لهم هو إيقاف كابوس الغرق الذي صفع الرأي العام الأوربي وذلك بالرفع من مستوى الإنقاذ و بمحاولة منع الانطلاقة من السواحل الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط حتى إذا استدعى ذلك فرض حصار على الموانئ المصدرة للظاهرة و تدمير المراكب المستعملة، و لو استدعى الأمر طلب مساعدة الأسطول السادس الأمريكي المرابط في حوض البحر المتوسط. لكن القوة لن تحل الإشكالية، لكن ممكن أن تخفف منها لفترة محددة و قصيرة لأن مهربي البشر سوف يجدون حلولا للخروج من بين أعين الشبكة و لو أستدعى الأمر الدفع بأكبر عدد ممكن من المهاجرين لركوب المخاطر في آن واحد. في نفس الوقت، و على المستوى الداخلي لأوربا كيفية توزيع المهاجرين الذين استطاعوا العبور بين جميع الدول الأوربية لتخفيف الضغط على البلدان الحدودية أو تلك التي ينوي أصلا المهاجرين الوصول إليها. في هذا الباب فالنقاش الآن بين الساسة الأوربيين هو التمييز بين نوعية المهاجرين: بين طالبي اللجوء، و المهاجرين لأسباب اقتصادية. فإن كان بالنسبة للشكل الثاني هو الرفض للبقاء و الرجوع إلى بلدانهم لأن الدول الأوربية تريد هجرة مختارة و وفق حاجياتها الاقتصادية الآنية و المستقبلية و وفق مهارات تحدد معاييرها، فالمشكل يبقى لديها في الصنف الأول و صعوبة إعادة المهاجرين إلى بلدانهم خصوصا إذا كانت هذه البلدان المصدرة تعرف اضطرابات سياسية أو نزاعات حربية، و محاولة المهاجرين الاقتصاديين الاستفادة و الاختباء وراء اللاجئين و وضعيتهم للاستقرار بأوربا. مشكلة اللاجئين هاته حاولت الدول الأوربية إيجاد حل لها من خلال وضع نظام للحصص يأخذ بعين الاعتبار وضعية كل دولة من خلال الارتكاز على بعض المعايير مثل الدخل الخام للدول و عدد السكان. لكن هذا النظام لا يزال يعرف بعض المعارضة من بعض الدول التي تحاول أن لا يكون بطريقة منهجية ولكن ليأخذ بعين الاعتبار كذلك أعداد المهاجرين الموجودين أصلا فوق التراب الوطني لكل دولة و التسويات التي كانت قد وقعت في السابق لأفواج المهاجرين التي كانت فوق أراضيها,

بعد هذه المرحلة العاجلة سوف يحاولون تحسيس بلدان العبور بالظاهرة ووضعهم أمام مسؤولياتهم، هذه السياسة التي كانت متبعة و أعطت أكلها في بعض الأحيان تصطدم بالواقع الليبي الراهن و الصراع الموجود حول السلطة بين الفرقاء الليبيين منذ سقوط القدافي. فليبيا تعرف الآن حكومتين و برلمانين متصارعين، زيادة على فصائل و منضمات إرهابية من كل طيف. فسوف لن يبق أمام الأوربيين سوى رفع الضغط بصفة متحدة، و بمشاركة دول الجوار، و الرفع من مستوى التهديد العسكري على الأطراف المتنازعة في ليبيا جميعا و بدون استثناء لإيجاد حل متوافق عليه بينهم.

من هنا يمكن بدأ تفكيك شبكات الاتجار في البشر و التهريب بطريقة ممنهجة من بلدان التصدير إلى بلدان الاستقرار. هذه المحاربة الممنهجة لا يمكن أن تعطي أكلها إلا بتناغم بين قوانين الدول الأوربية و شرحها و تدبيرها في بلدان التصدير حتى يتمكن من يحاول الهجرة معرفة مصيره قبل أخذ تدابير مغامرته.

لكن محاولة الحد من هذه الظاهرة و في عمقها الآني و بمحاولة فرض القوة العسكرية خصوصا بعد أن اتجهت الدول الأوربية إلى مجلس الأمن لأخذ الشرعية لملاحقة شبكات التهريب فوق أراضي العبور و بلدان الانطلاقة من الممكن أن يعطي نتائج معكوسة و غير محسوبة بالنسبة لدول العبور خصوصا في هذه الظرفية الغير مستقرة و التي يمكن أن تؤدي إلى انفجار المنطقة برمتها. فخنق المهربين بحريا و ملاحقتهم و تدمير قواربهم لن توقف موجة المهاجرين و استمرار صعودهم نحو الشمال، و تمركزهم و تكتلهم في دول العبور سوف يقوي الضغط على هذه الدول و على اقتصادياتها الهشة، أو محاولات، إذا كثر أعدادهم، و الإحصائيات تقول أنهم بالآلاف، كالمهاجمة على الثغور الإسبانية في المغرب و التي سوف تكون مأساة حقيقية يتحمل مسؤوليتها الجانب الأوروبي.

إن حل الأزمة لا يمكن إلا أن يكون سياسيا و اقتصاديا. سياسيا في أوربا و قبل كل شيء من خلال تجريد المصداقية من الذين يستغلون الخوف و المقاربات الثنائية المانوية التي لا تعرف إلا الصراع بين الخير و الشر و الأبيض و الأسود و لا يمكن أن تكون هناك مسحة باطنة. ثم حلا عبر نظرة شمولية للإشكالية بتفاوض و دراسة تشمل الدول المصدرة و دول العبور فدول الاستقرار. فالمهاجرون ليسوا فقط أفارقة من دول الساحل و جنوب الصحراء، بل هم كذلك من دول شرق البحر الأبيض المتوسط من سوريين و عراقيين و فلسطينيين و يمنيين، وسوف ينضم إليهم مصريون جدد إذا ما استمرت الأزمة السياسية و بالخصوص الاقتصادية…… فلا يجب أن ننسى أن ما كان يسمى بالربيع العربي هو في الأول وقبل كل شيء مطالب اقتصادية و اجتماعية بالدرجة الأولى.

ففي ظل المشاكل السياسية و الأمنية التي تعيشها دول جنوب الصحراء و دول جنوب و شرق دول البحر الابيض المتوسط، فالتنمية الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية لمنطقة البحر الأبيض المتوسط و امتداداتها الداخلية لدول الساحل و جنوب الصحراء و الشرق الأوسط يبقى هو الحل عوض تزكية الانشقاقات الإثنية و الدينية و السياسية لمحاولة السيطرة على مصادر الطاقة و المواد الأولية و معابر التجارة الدولية. فالصراع على النفوذ الاقتصادي الذي يؤثت فضائه الدول العظمى من الصين و روسيا و الولايات المتحدة و انجلترا البعيدين على الحوض و الدول الخليجية بقوتها المالية و إيران بسباقها النووي و إسرائيل بعنصريتها المفرطة، والتجاذب على الثروة الغازية في المياه البحرية و تقطيع الحدود البحرية بين مصر و فلسطين و إسرائيل و تركيا و قبرص، و السيطرة على منابع المياه بين تركيا و إسرائيل و العراق و سوريا….. سوف تجعل الضفاف كلها للبحر الأبيض المتوسط على فوهة بركان سوف يعصف بالمنطقة كلها حيث الهجرة تبقى فقط بادرة من بوادر التصدع الذي يحدق بالمنطقة……

إنه بدون إحياء إطار عام و شامل لهذه المعضلة في دول الحوض و امتداداتها القارية في إطار رابح رابح دون إقصاء أو تعجرف أو حكم القوي، وفي نظرة شمولية مندمجة تأخذ بعين الاعتبار التكامل الاقتصادي لجميع الدول وأمنها الداخلي و الخارجي لن يعم أبدا الاستقرار في المنطقة. فأوربا التي عرف هرمها الديموغرافي انعكاسا تحتاج إلى طاقات شابة لتجديد الروح فيها، كما أن اقتصادياتها المتأزمة تحتاج إلى أسواق في الجهة الأخرى و إلى تمويلات من الشرق، بينما دول العبور محتاجة إلى دعم استقرارها عوض تهديده و المساعدة على ولوج التطور و الركب التكنولوجي و تثبيت البنيات التحتية و الجامعات من خلال شركات بين مراكز البحت العلمي بين جميع الدول لتمكين كل مرشح للهجرة يجد في بلاده و بلدان العبور نفس المقومات التي يبحث عنها في الضفة الأخرى. هذا التكامل الاقتصادي لا يمكن أن يكتمل دون حل لإشكاليات الحدود البحرية بين الدول و الثروات الطبيعية و الطاقية الموجودة فيه من خلال إنشاء منظمة تسهر على الاستغلال المشترك بين الدول و بناء قنوات تحت البحر تمكن من تصريف الطاقة سواء كانت تقليدية أو متجددة. فالقاسم الحضاري المشترك بين هذه الدول يفوق بكثير ما يفرق بينهم.

Laisser un commentaire